
كتب:خالد تامر
من السيطرة إلى الإلهام
منذ فجر التاريخ، ارتبطت القيادة بالصوت الأعلى والقرار الأقوى. كان الملوك والقادة العسكريون يعتقدون أن نجاحهم مرهون بقدرتهم على السيطرة وإصدار الأوامر. ومع مرور الزمن، ترسخ هذا المفهوم حتى في عالم الأعمال والإدارة، فصار كثير من المدراء يفتخرون بأن “الناس يشتغلوا عندهم”.
لكن، مع تغير طبيعة المجتمعات وصعود الاقتصاد المعرفي، ظهر سؤال جوهري: هل النجاح اليوم يُبنى على أن الآخرين يشتغلوا عندك، أم أن يشتغلوا معاك؟
هذا السؤال ليس لغويًا فحسب، بل فلسفي وعملي في آنٍ واحد. فهو يكشف الفارق بين عقلية السيطرة وعقلية الشراكة، وبين قيادة تعتمد على الخوف، وأخرى تبني على الإلهام.
في هذا التقرير المطول، نغوص في جوهر القيادة الحديثة، ونستعرض الفروق النفسية والاجتماعية بين “عندي” و”معايا”، مدعومين بدروس من التجارب العالمية والعربية، وصولًا إلى رسائل عملية للشباب ورواد الأعمال وصناع القرار.

أولًا: الفرق اللغوي والنفسي بين “يشتغل عندي” و”يشتغل معايا”
الكلمات ليست محايدة؛ إنها تصنع الواقع وتشكّل الوعي.
- “يشتغل عندي”: جملة تنبني على التراتبية الصارمة. فيها طرف يملك القرار، وآخر ينفذ دون نقاش. العامل مجرد ترس صغير في ماكينة كبيرة.
- “يشتغل معايا”: جملة تُعيد تعريف العلاقة على أساس التعاون. تعني أننا نتشارك الهدف والمسؤولية، وأن القائد ليس سيدًا، بل شريكًا في العمل.
من الناحية النفسية، العبارتان تخلقان حالتين مختلفتين تمامًا:
- الأولى تولد شعورًا بالتبعية والخوف من الخطأ.
- الثانية تغرس الانتماء وتبني الدافعية الذاتية.
ثانيًا: منطق السيطرة – لماذا لا ينجح على المدى البعيد؟
المدير أو القائد الذي يصر على أن الجميع “يشتغل عنده” قد يحقق نجاحات مؤقتة، لكنه سرعان ما يصطدم بعوائق كبيرة، منها:
- انعدام الإبداع: الموظف المأمور لا يفكر خارج الصندوق.
- ضعف الولاء: ما إن تتاح فرصة أفضل، يرحل العامل دون تردد.
- ضغط على القائد نفسه: لأنه يتحمل وحده عبء التفكير والتوجيه.
- بيئة سامة: يسودها الخوف، لا الشغف.
ثالثًا: منطق الشراكة – كيف يصنع النجاح؟
على العكس، القائد الذي يجعل الآخرين “يشتغلوا معاه” يحقق بيئة أكثر استدامة، لأنه:

- يمكّن الأفراد من اتخاذ القرار.
- يخلق رؤية مشتركة يتبناها الجميع.
- يوزع الأدوار بعدالة فيشعر كل فرد بقيمته.
- يلهم بدل أن يأمر، فيصبح قدوة لا رقيبًا.
رابعًا: دروس من الإدارة العالمية
- ستيف جوبز (آبل): لم يكن مجرد مدير يوجه أوامر، بل قائد جعل فريقه يؤمن أنه “يغير العالم”.
- نيلسون مانديلا: مارس القيادة بالمشاركة، وحوّل السجون إلى مدرسة سياسية، ثم صنع المصالحة الوطنية كجهد جماعي.
- جاك ما (علي بابا): كان يردد دائمًا: “نجاحي لأن عندي فريقًا يؤمن بأحلامي أكثر مني”.
خامسًا: الأثر النفسي والاجتماعي
- العامل الذي “يشتغل عندك” يعمل لراتب فقط.
- العامل الذي “يشتغل معاك” يعمل لأنه يرى نجاحه جزءًا من نجاح الجماعة.
تشير الدراسات في علم النفس التنظيمي إلى أن إشراك الموظفين في القرار يزيد إنتاجيتهم بنسبة تصل إلى ٤٠٪ مقارنة ببيئات العمل السلطوية.
سادسًا: الواقع العربي – الحاجة إلى تغيير الثقافة
لا يزال كثير من المؤسسات العربية تقوم على نموذج “القائد الواحد”. تنهار المؤسسة بمجرد غيابه، لأن كل الخيوط بيده.
لكن المؤسسات العالمية الناجحة تبنى على فرق قوية، كل فرد فيها قادر على القيادة من موقعه.
سابعًا: القيادة في التعليم – نموذج حي
في المدارس، يظهر الفارق بوضوح:
- مدير يرى أن المعلمين “يشتغلوا عنده” فيستهلك طاقتهم بالروتين.
- مدير يجعلهم “يشتغلوا معاه”، فيضع رؤية مشتركة، فيرتفع مستوى التعليم وينعكس على الطلاب.
ثامنًا: كيف نتحول من “عندي” إلى “معايا”؟
- غيّر لغة الخطاب: قل “خلينا نعمل” بدل “أنا عايز”.
- شارك الفريق في التنفيذ: وجودك بينهم يرفع المعنويات.
- استمع أكثر: الثقة تبدأ من الإصغاء.
- كافئ الفريق لا الفرد فقط: النجاح دائمًا جماعي.
- اعترف بأخطائك: القائد الشفاف يكسب الاحترام.
تاسعًا: مقارنة بين الشرق والغرب
- اليابان: فلسفة “كايزن” تجعل كل عامل مسؤولًا عن تحسين مستمر.
- الولايات المتحدة: الشركات الناشئة تقوم على فرق متساوية حيث المؤسس يعمل بجانب الموظفين.
- العالم العربي: ما زال في طور التحول من السيطرة إلى الشراكة.
عاشرًا: رسائل عملية للشباب
- لا تفتخر بكونك “مدير على ناس”، بل بأنك “قائد يلهم ناس”.
- النجاح الحقيقي أن يختار الناس العمل معك، لا أن يُجبروا على العمل عندك.
- القائد العظيم يخلق قادة، لا مجرد تابعين.
الفارق بين “يشتغل عندي” و”يشتغل معايا” ليس لغويًا فقط، بل فلسفة حياة. الأول يبني مؤسسة هشة تنهار عند الأزمات، والثاني يصنع كيانًا مرنًا يستمر وينمو.
القيادة الحقيقية ليست في إصدار الأوامر، بل في بناء الثقة، وصياغة رؤية مشتركة، وإلهام الآخرين ليصبحوا شركاء في النجاح.
Contents
English Version
From Control to Inspiration: Why Leaders Who Work With People Succeed More Than Those Who Make People Work For Them
Since ancient times, leadership has often been linked to power, dominance, and unquestioned obedience. Kings, military commanders, and even some modern executives believed that success meant having people work for them.
But in today’s world—shaped by innovation, knowledge economies, and collaboration—the real measure of success lies in how many people choose to work with you, not just for you.
This article explores the psychological and organizational difference between control and partnership, drawing lessons from global leaders such as Steve Jobs, Nelson Mandela, and Jack Ma, while highlighting the urgent need for cultural change in Arab institutions.
True leadership today is not about issuing orders; it’s about building trust, creating shared vision, and inspiring others to achieve collective success.
🇫🇷 Version Française
Du Contrôle à l’Inspiration : Pourquoi les leaders qui travaillent avec leurs équipes réussissent plus que ceux qui les font travailler pour eux
Depuis l’Antiquité, le leadership a souvent été associé au pouvoir, à la domination et à l’obéissance aveugle. Les rois, les chefs militaires et certains dirigeants d’entreprises pensaient que le succès consistait à avoir des gens qui travaillent pour eux.
Mais dans le monde actuel — marqué par l’innovation, l’économie de la connaissance et la coopération — le véritable succès réside dans la capacité à faire en sorte que les gens choisissent de travailler avec vous plutôt que seulement pour vous.
Cet article analyse la différence psychologique et organisationnelle entre la culture du contrôle et celle du partenariat, en s’appuyant sur des exemples de leaders mondiaux comme Steve Jobs, Nelson Mandela et Jack Ma, tout en soulignant la nécessité d’un changement culturel dans les institutions arabes.
Aujourd’hui, le vrai leadership ne consiste pas à donner des ordres, mais à bâtir la confiance, à créer une vision partagée et à inspirer les autres pour atteindre ensemble le succès.
🇪🇸 Versión en Español
Del Control a la Inspiración: Por qué los líderes que trabajan con su equipo tienen más éxito que aquellos que hacen que otros trabajen para ellos
Desde la antigüedad, el liderazgo se ha vinculado al poder, la autoridad y la obediencia ciega. Reyes, comandantes militares e incluso algunos empresarios modernos creían que el éxito consistía en tener personas que trabajaran para ellos.
Sin embargo, en el mundo actual — definido por la innovación, la economía del conocimiento y la colaboración — el verdadero éxito se mide en cuántas personas deciden trabajar contigo y no solo para ti.
Este artículo examina la diferencia psicológica y organizacional entre el control y la asociación, destacando lecciones de líderes mundiales como Steve Jobs, Nelson Mandela y Jack Ma, además de señalar la necesidad urgente de un cambio cultural en las instituciones árabes.
El liderazgo verdadero ya no se trata de dar órdenes, sino de construir confianza, crear una visión compartida e inspirar a otros para lograr el éxito colectivo.