
كتب:خالد تامر
مقدمة: خطوة غير مسبوقة في عالم الحكم والإدارة
في التاسع من سبتمبر 2025، دخلت ألبانيا التاريخ عبر تجربة سياسية وإدارية فريدة من نوعها، عندما أعلن رئيس الوزراء إيدي راما عن تعيين أول وزيرة في العالم تعمل بالذكاء الاصطناعي، تحمل اسم “ديالا”. القرار، الذي جاء في مؤتمر حزبي، لم يكن مجرد خبر محلي عابر، بل تحول إلى مادة رئيسية في الصحافة العالمية، مثيرًا نقاشات واسعة حول مستقبل الإدارة العامة ودور التكنولوجيا في محاربة الفساد.
بحسب تصريحات راما، فإن هذه الخطوة ليست حركة استعراضية أو وسيلة للفت الأنظار، وإنما إجراء جاد لتعزيز الشفافية واستعادة ثقة المواطنين، خاصة في مجال المشتريات العامة، الذي يُعد من أكثر المجالات عرضة للفساد.
من هي “ديالا” الوزيرة الرقمية؟
“ديالا” ليست شخصية مجهولة بالنسبة للألبان، فهي الوجه الرقمي لمنصة “e-Albania”، البوابة الإلكترونية الرسمية التي أطلقتها الحكومة لتسهيل الخدمات للمواطنين.
على مدى السنوات الماضية، ساعدت “ديالا” ملايين المواطنين في الوصول إلى الوثائق الرسمية، وإتمام المعاملات عبر الإنترنت، وحتى التفاعل عبر الأوامر الصوتية.
ومع هذا الانتشار، تحولت “ديالا” إلى رمز للحوكمة الرقمية، إذ لم تعد مجرد أداة مساعدة، بل أصبحت منصة للتواصل بين الدولة والمجتمع. واليوم، تترقى من كونها خدمة رقمية إلى منصب وزاري رسمي، في تجربة غير مسبوقة عالميًا.

المهمة الأصعب: الإشراف على المشتريات العامة
أخطر ما في التجربة أن “ديالا” لم تُعيَّن في قطاع ثانوي أو تجريبي، بل في مجال يُعد من أكثر الملفات حساسية: المشتريات العامة.
فهذا المجال يمثل شريانًا اقتصاديًا، حيث تدور من خلاله مليارات الدولارات في صورة عقود، مناقصات، توريدات، ومشروعات بنية تحتية.
تاريخيًا، ارتبطت المشتريات العامة في كثير من الدول بمشكلات الرشوة والمحسوبية وتضارب المصالح، وهو ما جعل راما يصرّح قائلًا: “ديالا لا يمكن رشوتها، وليست لها ولاءات سياسية، وستطبق نفس القواعد على الجميع”.
هنا تكمن المفارقة: وزيرة غير بشرية، لا تعرف المجاملة ولا الانحياز، تتولى ملفًا طالما كان حكرًا على النفوذ والصفقات الخفية.
بين الشفافية والمساءلة: رؤية رئيس الوزراء
أوضح راما في كلمته أن الهدف من هذه التجربة هو إعادة بناء الثقة العامة التي تآكلت بسبب اتهامات الفساد. وقال إن الاعتماد على نظام رقمي ذكي سيحد من التدخلات الشخصية، ويجعل عملية التعاقدات أكثر عدالة وموضوعية.
هذه الرؤية تعكس إيمان الحكومة الألبانية بأن التكنولوجيا قد تكون أداة لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، بحيث تكون المعاملات أكثر وضوحًا، والمساءلة أكثر صرامة.
لكن راما نفسه اعترف بأن هذه التجربة تحمل في طياتها مخاطر وتحديات، مؤكدًا أن نجاحها يعتمد على المتابعة المستمرة والتطوير المستدام.
ردود فعل محلية: بين الأمل والقلق
في الشارع الألباني، انقسمت الآراء حول “ديالا”.
- هناك شريحة من المواطنين ترى أن هذه الخطوة بداية لعصر جديد من النزاهة، حيث تُدار أموال الدولة بعيدًا عن المصالح الضيقة.
- بينما عبّر آخرون عن مخاوف حقيقية من الاعتماد الكلي على نظام آلي قد يخطئ، أو قد يستبعد عقودًا صحيحة بسبب خلل في البرمجة أو نقص في البيانات.
هذه المخاوف ليست مجرد افتراضات، بل هي جزء من نقاش عالمي أوسع حول حدود الذكاء الاصطناعي، وإلى أي مدى يمكن أن يحل محل البشر في القرارات المصيرية.
اهتمام عالمي وتجربة تحت المجهر
لم يمر القرار مرور الكرام على الساحة الدولية، فقد سلطت وسائل الإعلام العالمية الضوء على التجربة الألبانية باعتبارها اختبارًا جريئًا لمستقبل الذكاء الاصطناعي في الحكم.
بعض المحللين الغربيين اعتبروا أن ألبانيا دخلت مرحلة “الريادة الرقمية”، بينما حذر آخرون من أن المبالغة في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي قد تؤدي إلى نتائج كارثية، خاصة إذا غابت آليات الرقابة البشرية.
وبذلك أصبحت “ديالا” ليست مجرد وزيرة في حكومة صغيرة، بل واجهة لتجربة عالمية سيراقبها الجميع بترقب شديد.
الذكاء الاصطناعي ومكافحة الفساد: بين النظرية والتطبيق
يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة قوية لمحاربة الفساد:
- قدرته على تحليل كميات ضخمة من البيانات بسرعة.
- إمكانية كشف الأنماط غير الطبيعية في العقود والمناقصات.
- القدرة على رصد التجاوزات في الوقت الفعلي.
لكن هذه المزايا لا تمنع من وجود ثغرات خطيرة:
- الاعتماد على بيانات قد تكون ناقصة أو متحيزة.
- قابلية النظام للتلاعب من خلال من يصمم الخوارزميات أو يديرها.
- غياب آليات مساءلة واضحة في حال وقوع أخطاء.
هذه النقاط تثير سؤالًا جوهريًا: من يتحمل المسؤولية عندما يُدار المال العام بواسطة ذكاء اصطناعي؟
التحديات الأخلاقية والقانونية
الجانب الأخطر في التجربة ليس تقنيًا فحسب، بل قانوني وأخلاقي أيضًا.
- إذا ارتكبت “ديالا” خطأً ورفضت عقدًا صحيحًا، من سيحاسب؟
- وإذا مررت عقدًا مشبوهًا بسبب ثغرة برمجية، من يتحمل المسؤولية أمام البرلمان والقضاء؟
هذه الأسئلة تجعل الكثير من الخبراء يدعون إلى ضرورة وضع إطار قانوني شامل يحدد حدود صلاحيات الذكاء الاصطناعي، ويضمن بقاء العنصر البشري في موقع الرقابة والمساءلة.
الذكاء الاصطناعي في الإدارة: تجارب عالمية مقارنة
ليست ألبانيا الدولة الأولى التي توظف الذكاء الاصطناعي في الإدارة العامة، لكنها بالتأكيد أول من منحه منصبًا وزاريًا رسميًا.
- في إستونيا، تستخدم الحكومة الذكاء الاصطناعي لإدارة بعض الخدمات الإلكترونية.
- في سنغافورة، يتم الاعتماد على أنظمة ذكية لتحليل البيانات الضريبية.
- في الإمارات، عُيّن وزير دولة للذكاء الاصطناعي عام 2017، لكنه بشر يقود استراتيجية وليس نظامًا آليًا.
هذا يبرز فرادة التجربة الألبانية، التي انتقلت من استخدام التقنية كأداة مساعدة، إلى اعتبارها فاعلًا سياسيًا بسلطة تنفيذية.
مستقبل غامض بين النجاح والفشل
تجربة “ديالا” قد تفتح الباب أمام ثورة جديدة في الحوكمة الرقمية، وقد تصبح نموذجًا يُحتذى به في دول أخرى إذا نجحت في تقليص الفساد وتحقيق الكفاءة.
لكن في المقابل، إذا فشلت التجربة أو أدت إلى مشكلات قانونية أو اقتصادية، فإنها قد تتحول إلى تحذير عالمي من مغبة الاعتماد المفرط على الأنظمة الذكية في إدارة الدول.
خاتمة: بين الأمل والتحذير
قرار ألبانيا بتعيين وزيرة تعمل بالذكاء الاصطناعي يمثل بلا شك لحظة فارقة في التاريخ السياسي والتكنولوجي. فهو يجسد الحلم بإدارة أكثر شفافية وعدالة، لكنه في الوقت نفسه يطرح أسئلة عميقة حول المسؤولية والمساءلة والعدالة في عصر الذكاء الاصطناعي.
بينما يصفه البعض بأنه خطوة ثورية ستغير وجه الإدارة العامة، يراه آخرون مغامرة محفوفة بالمخاطر قد تكشف عن نقاط ضعف خطيرة في الأنظمة الرقمية.
ومهما كانت النتيجة، فإن ألبانيا قد وضعت نفسها في موقع الريادة العالمية، لتصبح تجربتها بمثابة مختبر دولي مفتوح لمستقبل العلاقة بين التكنولوجيا والسلطة.