كتب:خالد تامر

القاهرة – 12 سبتمبر 2025 – وضعت مصر خلال الأيام الأخيرة حجر الأساس لمرحلة جديدة من التوسع في قطاع البترول والغاز عبر توقيع اتفاقيات كبرى مع شركات عالمية وإطلاق مشروعات تنموية واستكشافية تهدف إلى تعزيز الإنتاج المحلي ومواجهة التحديات الاقتصادية وتقليل الاعتماد على الاستيراد في ظل الطلب المتزايد على الطاقة. تأتي هذه الخطوات في وقت حساس يشهد فيه قطاع الطاقة المصري ضغوطًا غير مسبوقة بعد تراجع إنتاج الغاز الطبيعي خلال السنوات الماضية وارتفاع معدلات الاستهلاك الداخلي مما جعل الحكومة تسابق الزمن لإعادة التوازن وتحقيق الاكتفاء الذاتي مع تعزيز موقع مصر كمركز إقليمي للطاقة.

تراجع الإنتاج وتزايد الضغوط على السوق المحلي

خلال السنوات الأربع الماضية انخفض إنتاج الغاز الطبيعي المصري بنحو 40% ليسجل في مايو 2025 نحو 3.5 مليار قدم مكعبة يوميًا مقارنة بـ 6 مليارات قدم مكعبة يوميًا في 2021. هذا الانخفاض الحاد أثار قلق الحكومة والقطاع الخاص على حد سواء خاصة في ظل زيادة استهلاك الكهرباء والمصانع والقطاع المنزلي. ومع تضاعف الطلب المحلي برزت الحاجة إلى خطط عاجلة لزيادة الإنتاج وتعويض الفجوة بين العرض والطلب لتفادي اللجوء إلى الاستيراد المكلف بالعملة الصعبة.

EGAS تطلق رخص استكشافية جديدة وتضيف احتياطيات ضخمة

أعلنت الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية EGAS في تقريرها السنوي للعام المالي 2024/2025 عن منح 9 مناطق استكشافية جديدة لشركات محلية ودولية باستثمارات تصل إلى 479 مليون دولار. هذه الخطوة تعكس التزام الدولة بتشجيع الشركات الكبرى على زيادة عمليات البحث والتنقيب في مناطق واعدة بالبحر المتوسط والصحراء الغربية وخليج السويس. كما نجحت الشركة في تحقيق 29 كشفًا غازيًا جديدًا إضافة إلى 3 آبار ناجحة أخرى وهو ما عزز الاحتياطيات المؤكدة بنحو 1.85 تريليون قدم مكعبة من الغاز. وإلى جانب ذلك دخلت 7 مشروعات تنمية جديدة و23 بئرًا إنتاجية مرحلة التشغيل الفعلي باستثمارات تُقدّر بحوالي 1.7 مليار دولار.

اتفاق ضخم مع BP لحفر خمسة آبار في البحر المتوسط

من أبرز الاتفاقيات التي جرى توقيعها مؤخرًا مذكرة التفاهم بين EGAS وشركة BP البريطانية لحفر 5 آبار بحرية جديدة في مياه البحر المتوسط. هذه الآبار التي سيصل عمق الحفر فيها إلى ما بين 300 و1500 متر تمثل خطوة استراتيجية لإحياء عمليات الاستكشاف في المياه العميقة مع توقع بدء الحفر خلال عام 2026. ومن المخطط أن يتم ربط هذه الآبار بشبكة الإنتاج القائمة في منطقة غرب دلتا النيل ما يسهم في رفع القدرة الإنتاجية خلال السنوات القليلة المقبلة. الاتفاق يعكس ثقة الشركات العالمية في السوق المصرية ويؤكد التزام الدولة بتوفير بيئة جاذبة للاستثمار.

مشروعات البنية التحتية والتوسع في الغاز المنزلي

إلى جانب عمليات الاستكشاف والإنتاج تعمل الحكومة على توسيع استخدام الغاز الطبيعي في الحياة اليومية للمواطنين. خلال العام المالي الماضي تم توصيل الغاز إلى أكثر من 572 ألف وحدة سكنية جديدة ليصل إجمالي الوحدات التي تعمل بالغاز في مصر إلى 15.5 مليون وحدة منذ بدء البرنامج القومي للتوسع في استخدام الغاز المنزلي. كما شهدت الفترة نفسها إنشاء 34 محطة جديدة لتموين السيارات بالغاز المضغوط CNG وافتتاح 17 مركزًا لتحويل السيارات للعمل بالغاز ضمن مبادرة الدولة لتقليل استهلاك البنزين والسولار والاعتماد على الغاز كبديل اقتصادي وصديق للبيئة.

استثمارات متزايدة وشراكات دولية واسعة

حجم الاستثمارات المُعلنة مؤخرًا في قطاع الغاز تجاوز 2.2 مليار دولار بين اتفاقيات استكشافية ومشروعات تنموية. وإلى جانب اتفاقية BP أبرمت مصر عدة صفقات مع شركات كبرى مثل Shell وEni وArcius Energy لاستكشاف مناطق جديدة في البحر المتوسط ودلتا النيل. هذه الاستثمارات لا توفر فقط تدفقات نقدية وتكنولوجيا متطورة بل تفتح الباب أمام خلق فرص عمل جديدة وتعزيز القدرات الوطنية في قطاع الطاقة.

أهداف الدولة: نحو 6.6 مليار قدم مكعبة يوميًا بحلول 2027

وضعت الحكومة المصرية هدفًا استراتيجيًا يتمثل في رفع إنتاج الغاز الطبيعي إلى نحو 6.6 مليار قدم مكعبة يوميًا بحلول عام 2027. تحقيق هذا الهدف يتطلب التزامًا صارمًا بالجدول الزمني لحفر الآبار الجديدة وتسريع عمليات ربطها بخطوط الإنتاج إلى جانب تطوير البنية التحتية من محطات معالجة وخطوط أنابيب ومرافق تخزين.

التحديات القائمة أمام القطاع

رغم الإنجازات والاتفاقيات لا تزال هناك تحديات تقف أمام قطاع البترول والغاز في مصر أبرزها التحديات الفنية والتكنولوجية إذ أن عمليات الحفر في أعماق البحر تتطلب تقنيات متقدمة واستثمارات ضخمة، وتراجع إنتاج الحقول القديمة حيث بدأت العديد من الحقول البحرية والبرية في فقدان طاقتها الإنتاجية مما يفرض تكاليف إضافية للصيانة، والبعد البيئي بضرورة الالتزام بالمعايير البيئية وتقليل انبعاثات الكربون والغازات المصاحبة، وأخيرًا البنية التحتية التي تحتاج إلى تحديث مرافق المعالجة والنقل والتوزيع لمواكبة الزيادة المتوقعة في الإنتاج.

التأثير الاقتصادي والاجتماعي المتوقع

على المستوى الاقتصادي من المتوقع أن تؤدي هذه الخطط إلى تقليل فاتورة استيراد الغاز والوقود مما يخفف الضغط على العملة الأجنبية. على المستوى الاجتماعي يساهم توصيل الغاز إلى المنازل والمركبات في تحسين مستوى معيشة المواطنين وتخفيف الأعباء المالية عليهم. أما على المستوى الاستثماري فإن جذب شركات عالمية يعزز من مكانة مصر كوجهة رئيسية للاستثمارات في قطاع الطاقة بالشرق الأوسط.

مصر كمركز إقليمي للطاقة: رؤية مستقبلية

تسعى مصر لأن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة في المنطقة بفضل موقعها الاستراتيجي والبنية التحتية المتطورة التي تشمل خطوط أنابيب ومحطات إسالة وموانئ على البحرين الأحمر والمتوسط. هذه المكانة ستتيح لمصر لعب دور محوري في تزويد أوروبا بالغاز خاصة مع توجه القارة لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي.

ختام: مستقبل واعد رغم التحديات

في ظل هذه التحركات الكبيرة والاتفاقيات التاريخية يبدو أن مصر بدأت بالفعل استعادة زمام المبادرة في قطاع البترول والغاز ورغم التحديات فإن المسار الحالي يشير إلى أن البلاد قادرة على تحقيق قفزة نوعية بحلول 2027 والوصول إلى مستويات إنتاجية تعيدها إلى موقعها الإقليمي كأحد أهم منتجي الغاز في المنطقة. إن نجاح هذه الخطة سيعني ليس فقط تأمين احتياجات السوق المحلي بل فتح الباب أمام فرص تصديرية كبرى وتعزيز الاقتصاد الوطني وتوفير مستقبل أكثر استقرارًا لقطاع الطاقة في مصر.